-
الأندلس.. تسامح الإسلام أطلق دينامية مجتمعية شارك فيها الجميع
في أبريل من سنة 711 ميلادية وصلت الجيوش المسلمة بقيادة طارق بن زياد إلى السواحل الإيبيرية، التي كانت مستعمرة من القبائل القوطية منذ ثلاث قرون خلت، وأسسوا فيها دولة واتخذوا من طليطلة عاصمة لهم.
ومن بين أهم الصفات التي طبعت المنطقة في ظل حكم القوطيين هو الاضطهاد الذي مارسه ملوكهم ذوي المذهب الأريوسي (إحدى طوائف المسيحية) على السكان الكاثوليك والأقلية اليهودية المهمة في المجتمع الإيبيري في تلك الفترة، وهو ما سهل دخول المسلمين إلى الضفة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط ووصلوا إلى فرنسا في ظرف ثلاث سنين فقط، نظرا لما عاناه الشعب الإسباني من فقر واستبداد وتعصب ديني على يد الحكام القوطيين مثل «لذريق»، الذي قسم الإسبان إلى طبقات متصارعة على رأسها الحكام القوط والأعيان الرومانيين ومعهم الإقطاعيون ورجال الدين، واليهود ثم سكان البلد الأصليين.
كانت إسبانيا إذن تعيش نمط عيش خاص ولم يكن لليهود وللشعوب الأصلية مكانة مهمة داخل المجتمع وكانوا في أغلب الأحيان مضطهدين، ومع مجئ المسلمين عرفت الأندلس دينامية مجتمعية ونهضة فكرية وثقافية وحضارية دمجت جميع مكونات المجتمع من مسيحيين ويهود ومسلمين، واستطاعت بناء مجتمع وحضارة إنسانية يطبعها الاحترام المتبادل وقبول الآخر واحترام القناعات الدينية لكل فريق، وهو ما انعكس على طريقة التعامل بين الناس التي كان التحاور والسلم سماتها الأساسية.
وتحكي بعض الكتابات مما جاء في سيرة القديس «سانت ثيودارد» رئيس أساقفة » أربونة » أنه لما دخل المسلمون لأول مرة إلى » لانجدوك » ، انحاز اليهود إليهم، وفتحوا لهم أبواب مدينة رغبة في الانعتاق من الاضطهاد القوطي، وهو ما قابله المسلمون بالمودة اتجاههم والمعاملة الحسنة مثلما تنص على ذلك مقتضيات القرآن الكريم وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم. ومن مظاهر معاملة المسلمين الكريمة لأهل الأندلس تركهم على دينهم الأصلي وصون كنائسهم وأديرتهم بحيث لم يتم هدم أي دير أو كنيسة إلا في بعض المناطق التي أصبحت خالية من أهل الذمة؛ وسمحوا بناء كنائس جديدة وقرع الأجراس ووصلت عدد الكنائس في قرطبة لوحدها 15 كنيسة في ظل الحكم الإسلامي للأندلس. كما كفلت لهم الدولة حرية ممارسة طقوسهم الدينية ولرجال الدين حرية عقد التجمعات والمؤتمرات مثل مؤتمر أشبيلية النصراني الذي سنة 782م. من جهة أخرى وكما هو الشأن في باقي الدول المتعاقبة على المنطقة الإسلامية لم يتدخل المسلمون في الأندلس في التشريعات الدينية لأهل الذمة، ودعمت الدولة اختيار كل طائفة لرئيس منها سمي بقومس comes ليكون زعيما وممثلا لطائفته الدينية ولمصالحها أمام الدولة، ولم يتدخل المسلمون في التشريعات القضائية للنصارى في الأندلس وعينوا «قضاة النصارى» للبث في قضايا الرعايا من غير المسلمين، وتم الاحتفاظ أيضا بالقوانين القوطية في المجال المدني وبشعائر وأحكام الكنيسة الإسبانية كذلك.
لقد شهدت الأندلس خلال فترة الحكم الإسلامي عموما انسيابية في العلاقات بين المسلمين وغير المسلمين وكان لليهود والنصارى دورا كبيرا في تطور وبناء الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس التي شكلت فيما بعد منطلقا للحضارة الغربية الأوروبية، وما زالت أثارها ظاهرة إلى اليوم. وأسهم هذا التمازج في نهضة فكرية لم يسبق لها مثيل في التاريخ الإسلامي وشكلت أرضية خصبة لبروز العلماء الذين مازالت تفتخر بأعمالهم الحضارة الإسلامية مثل ابن حزم وابن عربي وابن رشد وابن البيطار وابن زيدون…
لقد انعكست هذه الانسيابية في العلاقة على الإنتاجات الفكرية للمسلمين في الأندلس، والتي تميزت باحترام التنوع والاختلاف واعتماد المعرفة والمحاججة بالبرهان والدليل في مناقشة الديانات الأخرى بعيدا عن العنف والتهجم، وهو ما يمكن استنتاجه من كتاب ابن حزم «الفصل في الملل والأهواء والنحل»، الذي يناقش العديد من الطوائف والديانات.
وقد خلف هذا التمازج والانسيابية في علاقة المسلمين مع اليهود والنصارى في الأندلس أثرا على علماء الضفة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط، وكمثال على ذلك هناك كتاب الفقيه الونشريسي، الجزائري المولد الذي سطع نجمه بين علماء فاس في أواخر العصر الأندلسي، المعنون ب» المعيار المعرب في فتاوي أهل أفريقية والأندلس والمغرب»، وهو أحد المراجع التي تحيط بالمذهب المالكي وجمع فتاوى ونوازل متعلقة بالحياة الاجتماعية والاقتصادية والعلمية في المغرب والأندلس في عصور مختلفة، وضمت مجلدات الكتاب حوالي 2000 فتوى منها أكثر من 230 فتوى متعلقة بالعلاقات الاجتماعية مع أهل الذمة في الأندلس وبلاد المغرب. ولم يقتصر الاحترام وقبول الاختلاف في العصر على غير المسلمين بل حتى داخل نفس المنظومة، فظهر في الأندلس لأول مرة مفهوم المناظرة بين العلماء المسلمين المنتمين لمذاهب مختلفة والتي جسدتها بقوة مناظرات ابن حزم المنتمي للمذهب الظاهري والقاضي أبو الوليد الباجي المنتمي للمذهب المالكي والتي تجاوز صداها حدود الأندلس.
إن هذا التنوع داخل المنظومة الإسلامية شمل المنظومات الدينية الأخرى وأعطى تنوعا فريدا من نوعه، فالتنوع الداخلي ينتج عنه الانفتاح على الآخر وقبول اختلافه واحترام خصوصياته، بينما يؤدي التقوقع والتشدد داخل نفس المنظومة إلى الانغلاق على الذات وعدم السعي إلى معرفة الآخر وهو ما يؤسس إلى الصدامات والمواجهات واعتبار الآخر عدوا.
سنحاول من خلال مجموعة من المقالات حول العلاقات الاجتماعية بين المسلمين وغير المسلمين وإسهام أهل الذمة في نهضة الحضارة الإسلامية في الأندلس التركيز على أهمية قيم التعايش والتسامح والانفتاح على الآخر في التقدم والازدهار، إيمانا منا بأن 15 قرنا من وجود الإسلام قامت على أسس عميقة في حسن التعامل والاحترام مع باقي الديانات، وأن ما يقع اليوم من اقتتال هو استثناء يدخل في الاستثناءات التي شهدها التاريخ الإسلامي على امتداد الدول المتعاقبة عليه، ويبقى الأصل في الإسلام هو التسامح والتعايش وأما الكراهية والاقتتال فهو استثناء لا يمكن القياس عليه.1 julio، 2016 / mdm24press / Comentarios desactivados en الأندلس.. تسامح الإسلام أطلق دينامية مجتمعية شارك فيها الجميع
Categories: آخر الأخبار, الرأي
الشرعي يرد على يتيم: بعيدا عن «الأحداث المتفرقة» مقتل 20 رهينة وستة مسلحين
Recent Posts
- قنصل ” تاراغونا” تسلم العلم الوطني لقيادة الحرس المدني
- الرئيس الجزائري يجعل من الكراهية اتجاه المغرب “محددا أساسيا” لهويته ونهجه السياسي
- الوداد يهزم الرجاء في الديربي
- بعد تنامي ظاهرة سلب الأطفال… قنصلية برشلونة تحتضن يوما تحسيسيا
- “وسيط المملكة”: 482 تظلم من مغاربة الخارج
- المؤسسات المنتخبة بالصحراء تسقط عن «البوليساريو» أكذوبة «التمثيلية»
- إغلاق جميع المنافذ أمام البوليساريو
- البرلمان الأوروبي يرفع الحصانة عن الانفصالي بوتشيمون
- الجزائر ..الاستماع لوزير النقل الأسبق في قضية فساد
- السينغال..دعوة أفراد الجالية المغربية للهدوء وتوخي الحذر
Comments are currently closed.